الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القرطبي: قوله تعالى: {قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} أي غيِّروه.قيل: جعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه.وقيل: غيِّر بزيادة أو نقصان.قال الفرّاء وغيره: إنما أمر بتنكيره لأن الشياطين قالوا له: إن في عقلها شيئًا فأراد أن يمتحنها.وقيل: خافت الجن أن يتزوّج بها سليمان فيولد له منها ولد فيبقون مسخَّرين لآل سليمان أبدًا، فقالوا لسليمان: إنها ضعيفة العقل، ورجلها كرجل الحمار؛ فقال: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} لنعرف عقلها.وكان لسليمان ناصح من الجن، فقال كيف لي أن أرى قدميها من غير أن أسألها كشفها؟ فقال: أنا أجعل في هذا القصر ماء، وأجعل فوق الماء زجاجًا، تظن أنه ماء فترفع ثوبها فترى قدميها؛ فهذا هو الصرح الذي أخبر الله تعالى عنه.قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْ} يريد بلقيس، {قِيلَ} لها {أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} شبهته به لأنها خلفته تحت الأغلاق، فلم تقرّ بذلك ولم تنكر، فعلم سليمان كمال عقلها.قال عكرمة: كانت حكيمة فقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ}.وقال مقاتل: عرفته ولكن شَبَّهت عليهم كما شَبَّهوا عليها؛ ولو قيل لها: أهذا عرشك لقالت نعم هو؛ وقاله الحسن بن الفضل أيضًا.وقيل: أراد سليمان أن يظهر لها أنّ الجن مسخَّرون له، وكذلك الشياطين لتعرف أنها نبوّة وتؤمن به.وقد قيل هذا في مقابلة تعميتها الأمر في باب الغلمان والجواري.{وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا} قيل: هو من قول بلقيس؛ أي أوتينا العلم بصحة نبوّة سليمان من قبل هذه الآية في العرش {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} منقادين لأمره.وقيل: هو من قول سليمان أي أوتينا العلم بقدرة الله على ما يشاء من قبل هذه المرّة.وقيل: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها.وقيل: هو من كلام قوم سليمان.والله أعلم.قوله تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله} الوقف على {مِنْ دُونِ اللَّهِ} حسن؛ والمعنى: منعها من أن تعبد الله ما كانت تعبد من الشمس والقمر ف {ما} في موضع رفع.النحاس: المعنى؛ أي صدها عبادتها من دون الله وعبادتها إياها عن أن تعلم ما علمناه عن أن تسلم.ويجوز أن يكون {ما} في موضع نصب، ويكون التقدير: وصدها سليمان عما كانت تعبد من دون الله؛ أي حال بينها وبينه.ويجوز أن يكون المعنى: وصدها الله؛ أي منعها الله عن عبادتها غيره فحذفت {عن} وتعدى الفعل.نظيره: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] أي من قومه.وأنشد سيبويه:وزعم أن المعنى عنده نبئت عن عبد الله.{إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} قرأ سعيد بن جبير: {أنها} بفتح الهمزة، وهي في موضع نصب بمعنى لأنها.ويجوز أن يكون بدلًا من {ما} فيكون في موضع رفع إن كانت {ما} فاعلة الصد.والكسر على الاستئناف.قوله تعالى: {قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح}.التقدير عند سيبويه: ادخلي إلى الصرح فحذف إلى وعدّي الفعل.وأبو العباس يغلِّطه في هذا؛ قال: لأن دخل يدلّ على مدخول.وكان الصرح صحنًا من زجاج تحته ماء وفيه الحيتان، عمله ليريها ملكًا أعظم من ملكها؛ قاله مجاهد.وقال قتادة: كان من قوارير خلفه ماء {حَسِبَتْه لُجَّةً} أي ماء وقيل: الصرح القصر؛ عن أبي عبيدة.كما قال: وقيل: الصَّرْح الصَّحْن؛ كما يقال: هذه صَرْحة الدار وقاعتها؛ بمعنًى.وحكى أبو عبيدة في الغريب المصنف أن الصَّرح كل بناء عال مرتفع من الأرض، وأن الممرد الطويل.النحاس: أصل هذا أنه يقال لكل بناء عمل عملًا واحدًا صرح؛ من قولهم: لبن صريح إذا لم يَشُبه ماء؛ ومن قولهم: صَرَّح بالأمر، ومنه: عربي صريح.وقيل: عمله ليختبر قول الجن فيها إن أمها من الجن، ورِجلها رِجل حمار؛ قاله وهب بن منبّه.فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد بها الغرق: وتعجبت من كون كرسيه على الماء، ورأت ما هالها، ولم يكن بَدّ من امتثال الأمر.{وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} فإذا هي أحسن الناس ساقًا؛ سليمة مما قالت الجن، غير أنها كانت كثيرة الشعر، فلما بلغت هذا الحد، قال لها سليمان بعد أن صرف بصره عنها: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} والممرد المحكوك المملس، ومنه الأمرد وتمرد الرجل إذ أبطأ خروج لحيته بعد إدراكه؛ قاله الفراء ومنه الشجرة المرداء التي لا ورق عليها ورملة مرداء إذا كانت لا تُنْبِت والممرد أيضًا المطوَّل، ومنه قيل للحصن مارد أبو صالح: طويل على هيئة النخلة ابن شجرة: واسع في طوله وعرضه قال: أي الدروع الواسعة.وعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم؛ على ما يأتي.ولما رأى سليمان عليه السلام قدميها قال لناصحه من الشياطين: كيف لي أن أقلع هذا الشعر من غير مضرة بالجسد؟ فدلّه على عمل النُّورَة، فكانت النُّورَة والحمامات من يومئذٍ.فيروى أن سليمان تزوّجها عند ذلك وأسكنها الشام؛ قاله الضحاك.وقال سعيد بن عبد العزيز في كتاب النقاش: تزوّجها وردّها إلى ملكها باليمن، وكان يأتيها على الريح كل شهر مرة؛ فولدت له غلامًا سماه داود مات في زمانه.وفي بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بلقيس من أحسن نساء العالمين ساقين وهي من أزواج سليمان عليه السلام في الجنة» فقالت عائشة: هي أحسن ساقين مني؟ فقال عليه السلام: «أنت أحسن ساقين منها في الجنة» ذكره القشيري.وذكر الثعلبي عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول من اتخذ الحمامات سليمان بن داود فلما ألصق ظهره إلى الجدار فمسه حرُّها قال أوّاه من عذاب الله» ثم أحبها حبًا شديدًا وأقرها على ملكها باليمن، وأمر الجن فبنوا لها ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعًا: سَلْحون وبَيْنون وغُمْدان، ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة، ويقيم عندها ثلاثة أيام.وحكى الشّعبي أن ناسًا من حِمْير حفروا مقبرة الملوك، فوجدوا فيها قبرًا معقودًا فيه امرأة عليها حُلَل منسوجة بالذهب، وعند رأسها لوح رخام فيه مكتوب: وقال محمد بن إسحاق ووهب بن منبه: لم يتزوجها سليمان، وإنما قال لها: اختاري زوجًا؛ فقالت: مثلي لا ينكح وقد كان لي من الملك ما كان.فقال: لابد في الإسلام من ذلك.فاختارت ذا تُبَّع ملك هَمْدَان، فزوجه إياها وردها إلى اليمن، وأمر زوبعة أمير جنَّ اليمن أن يطيعه، فبنى له المصانع، ولم يزل أميرًا حتى مات سليمان.وقال قوم: لم يرد فيه خبر صحيح لا في أنه تزوَّجها ولا في أنه زوّجها.وهي بلقيس بنت السرح بن الهداهد بن شراحيل بن أدد بن حدر بن السرح بن الحرس بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح.وكان جدها الهداهد ملكًا عظيم الشأن قد ولد له أربعون ولدًا كلهم ملوك، وكان ملك أرض اليمن كلها، وكان أبوها السرح يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤا لي، وأبى أن يتزوج منهم، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن، فولدت له بلقمة وهي بلقيس، ولم يكن له ولد غيرها.وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كان أحد أبوي بلقيس جنيًا» فمات أبوها، واختلف عليها قومها فرقتين، وملكوا أمرهم رجلًا فساءت سيرته، حتى فجر بنساء رعيته، فأدركت بلقيس الغيرة، فعرضت عليه نفسها فتزوجها، فسقته الخمر حتى حزت رأسه، ونصبته على باب دارها فملكوها.وقال أبو بكرة: ذكرت بلقيس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» ويقال: إن سبب تزوج أبيها من الجن أنه كان وزيرًا لملك عاتٍ يغتصب نساء الرعية، وكان الوزير غيورًا فلم يتزوج، فصحب مرة في الطريق رجلًا لا يعرفه، فقال هل لك من زوجة؟ فقال: لا أتزوج أبدًا، فإن ملك بلدنا يغتصب النساء من أزواجهن، فقال لئن تزوجت ابنتي لا يغتصبها أبدًا.قال: بل يغتصبها.قال: إنا قوم من الجن لا يقدر علينا؛ فتزوَّج ابنته فولدت له بلقيس؛ ثم ماتت الأم وابتنت بلقيس قصرًا في الصحراء، فتحدث أبوها بحديثها غلطًا، فنمى للملك خبرها فقال له: يا فلان تكون عندك هذه البنت الجميلة وأنت لا تأتيني بها، وأنت تعلم حبي للنساء! ثم أمر بحبسه، فأرسلت بلقيس إليه إني بين يديك؛ فتجهز للمسير إلى قصرها، فلما همّ بالدخول بمن معه أخرجت إليه الجواري من بنات الجن مثل صورة الشمس، وقلن له ألا تستحي؟! تقول لك سيدتنا أتدخل بهؤلاء الرجال معك على أهلكا فأذن لهم بالانصراف ودخل وحده، وأغلقت عليه الباب وقتلته بالنعال، وقطعت رأسه ورمت به إلى عسكره، فَأَمَّرُوها عليهم؛ فلم تزل كذلك إلى أن بلّغ الهدهد خبرها سليمان عليه السلام.وذلك أن سليمان لما نزل في بعض منازله قال الهدهد: إن سليمان قد اشتغل بالنزول، فارتفع نحو السماء فأبصر طول الدنيا وعرضها، فأبصر الدنيا يمينًا وشمالًا، فرأى بستانًا لبلقيس فيه هدهد، وكان اسم ذلك الهدهد عفير، فقال عفير اليمن ليعفور سليمان: من أين أقبلت؟ وأين تريد؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود.قال: ومَن سليمان؟ قال: ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحش والريح وكل ما بين السماء والأرض.فمن أين أنت؟ قال: من هذه البلاد؛ ملكها امرأة يقال لها بلقيس، تحت يدها اثنا عشر ألف قَيْل، تحت يد كل قَيل مائة ألف مقاتل من سوى النساء والذراري؛ فانطلق معه ونظر إلى بلقيس ومُلكها، ورجع إلى سليمان وقت العصر، وكان سليمان قد فقده وقت الصلاة فلم يجده، وكانوا على غير ماء.قال ابن عباس في رواية: وقعت عليه نفحة من الشمس.فقال لوزير الطير: هذا موضع مَن؟ قال: يا نبيّ الله هذا موضع الهدهد.
|